<blockquote>
في غار حراء</blockquote><blockquote>
ولما تقاربت سنه
الأربعين وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه ،
حبب إليه الخلاء فكان يأخذ السويق والماء ويذهب إلى غار حراء في جبل النور
على مبعدة نحو ميلين من مكة _ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع
وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد _ ومعه أهله قريباً منه فيقيم فيه شهر
رمضان يطعم من جاءه من المساكين ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله
من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة وهو غير مطمئن لما عليه قومه
من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية ولكن ليس بين يديه طريق واضح
ولا منهج محدد ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .</blockquote><blockquote>
وكان اختياره
لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له وليعده لما ينتظره من الأمر العظيم
ولابد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى
.</blockquote><blockquote>
لابد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت وانقطاع عن شواغل الأرض وضجة الحياة وهموم الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .</blockquote><blockquote>
وهكذا دبر الله لمحمد
وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض وتعديل خط التاريخ : دبر
له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات ينطلق في هذه العزلة شهراً
من الزمان مع روح الوجود الطليقة ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون حتى
يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .</blockquote>
<blockquote>
أمر القيام بالدعوة إلى الله وموادها</blockquote><blockquote>
تلقى النبي أوامر عديدة في قولة تعالى يا أيها المدثر(1) قم فأنذر (2) وربك فكبر (3) وثيابك فطهر (4) والرجز فاهجر (5) ولا تمنن تستكثر (6) ولربك فاصبر أوامر بسيطة ساذجة في الظاهر ، بعيدة المدى والغاية ، قوية الأثر والفعل في الحقيقة ونفس الأمر . </blockquote><blockquote>
1_
فغاية القيام بالإنذار أن لا يترك أحداً ممن يخالف مرضاة الله في عالم
الوجود إلا وينذره بعواقبه الوخيمة حتى تقع رجفة وزلزال في قلبه وروعه . </blockquote><blockquote>
2_
وغاية تكبير الرب أن لا يترك لأحد كبرياء في الأرض إلا وتكسر شوكتها وتقلب
ظهراً لبطن ، حتى لا يبقى في الأرض إلا كبرياء الله تعالى .</blockquote><blockquote>
3_
وغاية تطهير الثياب وهجران الرجز أن يبلغ في تطهير الظاهر والباطن وفي
تزيكة النفس من جميع الشوائب والألواث إلى أقصى حد وكمال يمكن لنفس بشرية
تحت ظلال رحمة الله الوارفة وحفظه وكلئه وهدايته ونوره حتى يكون أعلى مثل
في المجتمع البشري تجتذب إليه القلوب السليمة وتحس بهيبته وفخامته القلوب
الزائغة حتى ترتكز إليه الدنيا بأسرها وفاقا أو خلافاً .</blockquote><blockquote>
4_
وغاية عدم الإستكثار بالمنة أن لا يعد فعالاته وجهوده فخيمة عظيمة بل لا
يزال يجتهد في عمل بعد عمل ويبذل الكثير من الجهد والتضحية والفناء ثم
ينسى كل ذلك بل يفنى بالشعور بالله بحيث لا يحس ولا يشعر بما بذل وقدم .</blockquote><blockquote>
5_
وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ما سيلقاه من أذى المعاندين من المخالفة
والإستهزاء والسخرية إلى الجد والإجتهاد في قتله وقتل أصحابه وإبادة كل من
التف حوله من المؤمنين يأمر الله تعالى أن يصبر على كل من ذلك بقوة وجلادة
لا لينال حظاً من حظوظ نفسه بل لمجرد مرضاة ربه .</blockquote><blockquote>
الله
أكبر ما أبسط هذه الأوامر في صورتها الظاهرة وما أروعها في إيقاعاتها
الهادئة الخلابة ولكن ما أكبرها وأفخمها وأشدها في العمل وما أعظمها إثارة
لعاصفة هوجاء تحضر جوانب العالم كله وتتركها يتلاحم بعضها في بعض .</blockquote><blockquote>
والآيات
نفسها تشتمل على مواد الدعوة والتبليغ فالإنذار نفسه يقتضي أن هناك
أعمالاً لها عاقبة سوأى يلقاها أصحابها ونظراً لما يعرفه كل أحد أن الدنيا
لا يجازى فيها بكل ما يعمل الناس بل ربما لا يمكن المجازاة بجميع الأعمال
. فالإنذار يقتضي يوماً للمجازاة غير أيام الدنيا وهو الذي يسمى بيوم
القيامة ويوم الجزاء والدين وهذا يستلزم حياة أخرى غير الحياة التي نعيشها
في الدنيا .</blockquote><blockquote>
وسائر
الآيات تطلب من العباد التوحيد الصريح وتفويض الأمور كلها إلى الله تعالى
وترك مرضاة النفس ومرضاة العباد إلى مرضاة الله تعالى .</blockquote><blockquote>
فإذن تتلخص هذه المواد في : </blockquote><blockquote>
أ _ التوحيد .</blockquote><blockquote>
ب _ الإيمان بيوم الآخرة .</blockquote><blockquote>
ج
_ القيام بتزكية النفس بأن تتناهى عن المنكرات والفواحش التي تفضي إلى سوء
العاقبة وبأن تقوم باكتساب الفضائل والكمالات وأعمال الخير .</blockquote><blockquote>
د _ تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى .</blockquote><blockquote>
هـ _ وكل ذلك بعد الإيمان برسالة محمد وتحت قيادته النبيلة وتوجيهاته الرشيدة . </blockquote><blockquote>
ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوي _ في صوت الكبير المتعال _ بانتداب النبي لهذا الأمر الجلل وانتزعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة يا أيها المدثر (1) قم فأنذر (2)
كأنه قيل : إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحاً أما أنت الذي تحمل هذا
العبء الكبير فمالك والنوم ؟ وما لك والراحة ؟ ومالك والفراش الدافئ ؟
والعيش الهادئ ؟ والمتاع المريح ! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء
الثقيل المهيأ لك قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم
والراحة وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاق قم
فتهيأ لهذا الأمر واستعد .</blockquote><blockquote>
إنها لكلمة عظيمة رهيبة تنزعه
من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخضم بين
الزعازع والأنواء وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .</blockquote><blockquote>
وقام رسول الله
فظل قائماً بعدها أكثر من عشرين عاماً ! لم يسترح ولم يسكن ولم يعش لنفسه
ولا لأهله قام وظل قائماً على دعوة الله يحمل على عاتقة العبء الثقيل
الباهظ ولا ينوء به ، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض ، عبء البشرية كلها
، عبء العقيدة كلها ، عبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى ، عاش في المعركة
الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا
الأمد منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب .. جزاه
الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء .</blockquote><blockquote>
وليس هذا الموقع إلى صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول اللهخلال هذا الأمد .</blockquote>